ثم بعد ذلك جاءت الحملات حتى وصلت إلى بلاد الشام ، فذهلوا عندما رأوا المسلمين كيف يعيشون، فقد دخلوا مدينة صغيرة لا تعد من المدن الإسلامية الكبرى، وهي: معرة النعمان ، معرة النعمان هذه هي التي ينسب إليها أبو العلاء المعري ، وليست من المدن الكبرى مثل: دمشق أو حلب أو ما أشبه ذلك، فعندما دخلها الصليبيون ذهلوا عندما وجدوا مكتبة فيها عشرات الألوف من الكتب في جميع العلوم والفنون، فهذا الأمر لم يألفوه ولم يتعودوه، فجاءوا ووجدوا أن المسلمين يقرءون القرآن، وبلغتهم، وفي كل مكان.
فتعجبوا من هذا، فكانوا يسألون المسلمين: أنتم تقرءون كتابكم؟ فيقول المسلمون: نعم. فيقولون: وأين قساوستكم؟ قالوا: ليس عندنا قساوسة، فهؤلاء هم علماؤنا الذين أمامكم يمشون كما يمشي الناس، ويعيشون كما يعيش الناس، ومنهم الغني، ومنهم الفقير، وأكثر علماء المسلمين كانوا أصحاب مهن؛ ولهذا إذا قرأتم كتب الرجال تجدون البزار، والخياط، والجواليقي، والحذاء، والخفاف وغيرها، فكل منهم ينسب إلى المهنة التي كان يعمل فيها، فكانوا أصحاب مهن وأعمال عادية كما يعيش بقية الناس، ولكن الله تعالى شرفهم وفضلهم وميزهم بالعلم.
فالصليبيون لما رأوا هذا لم يكادوا يصدقون، لكن كانت الغشاوة على أعينهم وعلى قلوبهم عظيمة جداً، وكانوا خاضعين خضوعاً أعمى لأوامر رجال الدين والطواغيت المتحكمين فيهم، فما كان يستطيع أحد أن يخرج عنهم وأن ينفرد إلا إذا اعتزلهم وهرب نهائياً، وبقي في بلاد الشام ، وهذا حال كثير منهم فقد بقوا هناك إلى اليوم، فهم من أصول أولئك، ولكنهم أسلموا واستوطنوا تلك البلاد، أو لم يسلموا ولكن بقوا في بلاد الشام ، فقد وجدوا أشياء لم يكونوا يألفونها، ولا يعرفونها على الإطلاق.